اثر القرآن في ضبط نفسية الانسان
يتمحور هذا الموضوع حول مفهومين اساسين :
اولهما : النفس البشرية ، وثانيهما :اثر القران في ضبطها وانضباطها
فالانسان مكون من ثلاث لطائف :" العقل ، والقلب ، والنفس " حيث ان دين المرء محكوم بعقله ، فلا دين لمن لا عقل له ، وبعض الافعال التي تقتضيها صورة الانسان " كالغضب والرضا ، والجرأة والخوف ،والجود والشح ، والسخط والقبول "محلها القلب ، وبالنفس يشتهي الانسان ما يستلذه من المطاعم والمشارب والمناكح
النفس البشرية ، قواها وأنواعها :
حديثنا اذن يهم النفس ، الهوية الحقيقية للانسان ، ومحتواها الحقيقي هو الذي يحدد وجهة الانسان نحوالسعادة ، ويبين مصيره المستقبلي
فالنفس في الانسان هي صورته وهواه ورغباته وشهوته ،وهي أثر من آثار الروح التي تمنح النفس القوة لأداء خواصها بأمر الله تعالي ـ كما ورد عن بعض السلف :"اذا دخلت الروح الجسد سمي نفسا ، وبها تحس النفس وتشعر وتبصر وتسمع وتشم وتتذوق "
فالنفس تري بالعين ، وتسمع بالأذن ، وتحس بواسطة مسام الجلد ،وتتذوق بواسطة الخلايا الموجودة في اللسان .هذه الأحاسيس والادراكات العقلية ـ بمجموعها غير المادية هي ما يسمي بالنفس الانسانية ، فاذا أخذ الله الروح وخلي الجسد منها ، انقطعت تلك الطاقة عن الاسلاك العصبية ، وفقدت تلك الحواس ، فماتت النفس التي عبر القرآن عنها في قوله تعالي " كل نفس ذائقة الموت "
( ال عمران :185)
فعن طريق النفس ينصرف الانسان الي امانيه المادية وشهواته الدنيوية ، فينحط بقدر اشتغاله في تلبية ذلك ، وانصرافه عما يسمو به من فضائل وطاعات ، أويعلو ويسمو بانصرافه للفضائل الايجابية ، فيرتقي بقدر اعمال نفسه في الدرجات.
وهذا يعني ويبين ان للنفس مراتب ، وأنها تخضع للتغيير والتبديل من حالة الي حالة ،
كما حقق القرآن ذلك في قوله تعالي :"ان الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم "
( الرعد :11)
فاذا نظرنا اليها في تقلباتها هذه وجدنها تمر عبر قوي أساسية تتمثل في:
قوة الشهوة ، وقوة الغضب ،وقوة العقل ، فالبالعفة تهزم الشهوة ،وبالشجاعة ينهزم الغضب ، وبالحكمة والحرص عليها يسمو العقل ، ولجميعها يحتاج الانسان ، فلو كان عقلا فقط لكان ملكا ، لكن الله خلق الانسان الذي يخطئ ويصيب ، ولو كان غضبا فقط لكان سبعا ، لكنه يحتاج إلي الشهوة ليعيش ويتناسل ، وحسب استخدام هذه القوي المذكورة تمر النفس الإنسانية بمراحل تتصف فيها بصفات ثلاث هي :
أولا : النفس اللوامة :
قال الله تعالي :" لا أقسم بيوم القيامة * ولا أقسم بالنفس اللوامة "
( سورة القيامة : 1-2)
حيث أقسم سبحانه بيوم عظيم ، لتحقيق وقوعه وبيان هوله ، وإيقاظ النفوس النائمة الغافلة عنه ، فتصحو وتنتبه من سباتها
وقد ذكر الله تعالي ـ النفس اللوامة اثر قسمه بيوم القيامة للعلاقة الوثيقة بين مصير النفس وقيام ذلك اليوم ، حيث تقف فيه وحيدة دون نصير ، فهي نفس تفعل الخير وتحبه وتعمل المعصية وتكرهها ، نفس تعيش في داخلها صراعا بين الخير والشر
فالإنسان في بداية أمره إذا ارتكب ذنبا أو خطيئة ابتداء ، شعر في داخله بإحساس يؤنبه ، وتمني لو لم يفعله ، وإذا عاد إليه ثانية ضعفت خاصية الشعور بالذنب والخطيئة ، وانتقل صاحبها إلي مرحلة الميل إلي المعصية واستحسانها ، لتنتقل نفسه من لوامة إلي أمارة بالسوء
ثانيا :النفس الأمارة بالسوء :
حيث تميل النفس الي السوء وحب العصيان ، والغفلة عن الطاعة والعبادة ،ويطلق عليها : النفس الأمارة بالسوء ، نفس استحوذ عليها الشيطان وسيطر علي سلوكها وذوقها ، وقتل فيها الحياء والعفة . هذه النفس تعلل فجورها واستمرارها في المعصية بنسبة كل ما يفعله الإنسان إلي البيئة والآباء أو المجتمع ، قال الله تعالي :" وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا "
( الأعراف :28)
فتستكبر وتقع في الظلم لتقع في الخسران الابدى ,
قال الله تعالي " ان الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة" ( الشورى :45)
وسبب ذلك حدده الشارع في قوله تعالي :" لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا " ( الفرقان :21 )
ثالثا : النفس المطمئنة :
نفس راضية استسلمت لخالقها برضي وقناعة ، لا تفعل الا ما تيقن لها صلاحه ، نفس تحقق لها الورع والاخلاص ، وسمت عن الدنيا وشهواتها واشتغلت عنها بعمارة عالم الاخرة الباقية الخالدة المحددة
في قوله تعالي :" فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين "
( السجدة :17)
وهي نفس استحقت الذكر والتمجيد في قوله تعالي ( يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي الي ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي ) ( الفجر :27-30)
مفهوم الضبط والانضباط :
الارتقاء بالنفس والنهوض بها ـ باعتبار طبيعتها التغييرية يحتاج الي ضبط وانضباط خاصين ، يستمدان أصولهما من كتاب الله ، الذي تحدث عن مراتب النفس ، وبينها من خلال سوره وآياته , وقبل تحديد ذلك نحتاج الي بيان مفهوم الضبط والانضباط
فالضبط هو لزوم الشئ وحبسه ، والضابط هو الذي يلازم ما يضبطه ، ويصبر نفسه معه حفظا وحزما ،والاضبط الذي يعمل بيديه جميعا ،
و " ضبط " فعل يتعدي بنفسه ، بمعني ان له فاعلا ومفعولا ،فالفاعل هو الضابط والمفعول هو المضبوط ، أي الموضوع والمجال الذي يقع فيه او به او عليه الفعل والعملية الضبطية . فاذا انصرف المعني الي ضبط النفس وانضباطها دل علي حبس النفس عن الشر والزامها بالخير مع الصبر عليها والحزم معها . وهو ما أطلق عليه علماء التربية بتزكية النفس في مقابل تدسيتها
وقد أقسم الخالق ـ سبحانه ـ أقساما سبعة في مطلع سورة الشمس علي ان المفلح من زكي نفسه والخاسر من دساها ، فقال :" والشمس وضحاها * والقمر اذا تلاها * والنهار اذا جلاها * والليل اذا يغشاها * والسماء وما بناها * والارض وما طحاها *ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها *وقد خاب من دساها "
( الشمس :1ـ10 )
والمقصود بالتزكية هنا : طهارة النفس أو تطهيرها وتنظيفها ، مخالفا للدس الذي هو كناية عن الاغراق في الوسخ والاوحال , ولا يعني ذلك ابدا التزكية مطلقا لما تعترضها من سلبيات ، مثل الاستعلاء والتكبر والترفع الذي نهي الله تعالي عنه ،
كما في قوله :" ألم تر الي الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء " ( النساء :49 )
والقرآن هو طب النفوس باعتباره روح الروح ونور البصيرة ، به يتحقق الضبط والانضباط ، كما قال الله تعالي :" وكذلك أوحينا اليك روحا من امرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا "
( الشوري :52 )
والنور يضئ ويبين الأمراض ، ويهدي الي طريق الصواب ، ولا يتم ذلك الا بتحديد أمراض النفس المهلكة التي سطرها القرآن ، من أجل تقديم الدواء الناجح لها من آياته وسوره العظام
* آفتا النفس البشرية :
فالنفس معرضة لأفتين ذكرهما القرآن – وبمعرفتهما يستعان علي تحقيق الضبط والانضباط لنفس الانسان ـ هما الخطأ والنسيان ، وهما مستمدان من آية يعلمنا فيها الخالق أن ندعوه ونسأله عدم المؤاخذة فيهما في
قوله تعالي :" ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو أخطأنا "
( البقرة :286 )
حيث ان أول معصية وقعت في الكون من قتل الانسان كانت بسبب النسيان ، لقوله تعالي " ولقد عهدنا الي آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما "
( طه :115 )
ووساوس الشيطان لا تنتهي ، كيف وقد أقسم الشيطان بعزة الرحمن أن يغرر بالانسان ويوقعه في جملة من المعاصي والآثام ، حيث ذكر القرآن علي لسانه :" قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين "
( الاعراف :16-17 )
وقوله :" وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا * ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا "
( النساء :118: 119 )
والهدف هو ان يقع الانسان في نسيان ذكر الله ، كما قال تعالي :"استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله "
( المجادلة : 19)
ومن الطبعي أن تقع النفس البشرية في الخطأ ، لقوله صلي الله عليه وسلم :" كل بني آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابون "
( سنن الترمذي )
بل لو لم تخطئ لغيرها الله بغيرها من أجل التوبة والمغفرة ، لقوله صلي الله عليه وسلم :" لو لم تذنبوا لخلق الله خلقا يذنبون فيغفر لهم "
( صحيح مسلم )
والخطأ يصدر عن النفس بدلائل من القرآن ،منها :
قوله تعالي :" أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم "
( ال عمران :165 )
وقوله تعالي :" وما أصابك من سيئة فمن نفسك "
( النساء :79 )
وما ورد علي لسان الأبوين آدم وحواء عليهما السلام :" قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين "
( الاعراف : 23 )
وقوله علي لسان ملكة سبأ :" قالت رب اني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين" : ( النمل : 44 )
وقوله علي لسان موسي كليم الرحمن :" قال رب اني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له " ( القصص :16 )
وقوله علي لسان امرأة العزيز :" وما أبرئ نفسي ان النفس لأمارة بالسوء الا ما رحم ربي " ( يوسف : 53 )
وقوله تعالي حكاية لقول الشيطان حين القضاء بين العباد :" وقال الشيطان لما قضي الأمر ان الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان الا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي اني كفرت بما أشركتموني من قبل ان الظالمين لهم عذاب أليم" " ( ابراهيم : 22 )
* وسائل ضبط النفس وانضباطها :
ضبط النفس ليس بالأمر الهين ، اذ الصراع داخلي مائة بالمائة ، ولكن آثاره وبوادره داخلية وخارجية ، ولكن لحسن السير ، وتحقيق السعادة في الدنيا والآخرة ، لا مفر من بذل مجهود مضاعف يستطاع به ضبط أمراض النفس ، ولن يتم ذلك الا بأمور ، منها :
1 ـ الاعتراف بعيوب النفس والتعرف عليها :
ويتم ذلك باتباع توجيهات القرآن التي سماها بالبصائر في قوله تعالي :
" قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه "
( الأنعام :104 )
فاذا أراد الله بعبده خيرا بصره بعيوب نفسه ، ومن كملت له بصيرته لم تخف عليه عيوبه ، واذا عرف عيوبه أمكنه علاجها
فالانسان يلاحظ كثيرا علي غيره ، ولكنه لا يجرؤ علي النظر في عيوبه ، أو يبحث عنها ، الكل يري القذي في عين أخيه ، ولكنه لا يري ما في عينيه ، ما يحصل للانسان هو نفسه ما يحصل للجمل الذي يري ما علي ظهر أخيه من تقوس واعوجاج ، ولكنه لا يعلم ان الاعوجاج عام في بني جنسه
ولتحقيق هذا الاستبصار وجب سلوك سبيلين :
أـ أن يطلب ذلك بالجد والاجتهاد والاخلاص ، ولا يتم ذلك الا بمراقبة من يعلم السر وأخفي ، علي مستوي القول والفعل والسلوك ، مع الاستعانة بمد يد الرجاء الي الله تعالي
وحتما بهذا الفعل ستكون النتيجة هي الاهتداء لقوله تعالي :" والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا "
( العنكبوت :69 )
ب ـ مراقبة أحوال وأقوال وأفعال الأخرين ، ليقف علي السيئ منها فيلحظه في نفسه ليتجنبه ، باعتبار تقارب طباع الناس ، فيتفقد نفسه ويطهرها في ضوء ما يراه مذموما في غيره ، وقد قيل قديما :" العاقل من أتعظ بغيره ".
فالاعراض عن معرفة العيوب هو ضعف ونقص وفقدان للشجاعة في مواجهة النفس ، ولهذا الاعراض سبب أساسي يوقع فيه وهو : اعتقاد الانسان أنه بلغ مرحلة من الصلاح ، مع أن كل انسان معرض للنقصان والخطأ ، ورحم الله عمر القائل :" أحب الناس الي من رفع الي عيوبي "
2 ـ مجاهدة أمراض النفس وأخطائها وصفاتها الذميمة :
أخطاء النفس كثيرة ، لا يستطيع عدها أو حصرها ، وان كانت الاشارة اليها والتنبيه علي أهمها امرا أساسيا
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في ( الفوائد ) : بعض أخطاء النفس فقال :
" في النفس كبر ابليس ، وحسد قابيل ، وعتو عاد ، وطغيان ثمود ،وجرأة نمرود، واستطالة فرعون ، وبغي قارون ، وقحة هامان
( اي لؤم)، وهوي بلعام ( عراف أرسله ملك ليلعن بني اسرائيل فبارك ولم يلعن )،وحيل اصحاب السبت ، وتمرد الوليد ،وجهل أبي جهل
وفيها من أخلاق البهائم حرص الغراب ، وشره الكلب ، ورعونة الطاووس ، ودناءة الجعل ، وعقوق الضب ،وحقد الجمل ،ووثوب الفهد،وصولة الاسد ، وفسق الفأرة ،وخبث الحية ، وعبث القرد ،وجمع النملة ،ومكر الثعلب ، وخفة الفراش ،ونوم الضبع
* أهم اخطاء النفس :
1 ـ الشهوة ووسيلة ضبطها :
يقول الله تعالي ـ: " زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب "
( ال عمران :14 )
وخطورتها تكمن في كون طريقها يؤدي الي النار حيث يقول صلي الله عليه وسلم :" حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات "
( صحيح مسلم )
وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم :" لما خلق الجنة قال لجبريل :اذهب فانظر اليها ، فذهب فنظر اليها ثم جاء فقال : أي رب وعزتك لا يسمع بها أحد الا دخلها ، ثم حفها بالمكاره ، ثم قال : يا جبريل اذهب فانظر اليها ، فنظر فيها ثم جاء فقال :أى رب وعزتك لقد خشيت ألا يدخلها أحد ، قال : فلما خلق النار قال : يا جبريل اذهب فانظر اليها ،فنظر اليها ثم جاء فقال :أي رب وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها ، فحفها بالشهوات ثم قال : يا جبريل اذهب اليها فانظر اليها ، فذهب فنظر اليها ثم جاء فقال : أي رب وعزتك لقد خشيت الا يبقي أحد الا دخلها "
( سنن أبي داود ، وصحيح ابن حبان )
فالشهوة ما تشتهيه النفس وتتمناه وترغب في تحقيقه مهما كان المقابل خطيرا . وقد جبلت النفس علي حب الشهوات التي لن تتجاوز ما ذكر في القرآن ، ويمكن أن تطلق علي الآيات السابقة أصول الشهوات التي يتفرع عنها غيرها
فأصل الشهوات النساء كما أكد علي ذلك الرسول صلي الله عليه وسلم في قوله :" ما تركت بعدي فتنة في الناس أضر علي الرجال من النساء "
( صحيح مسلم )
وقد يحصل الشذوذ والانحراف فتنقلب الشهوة الي نمط آخر ، كما قال تعالي :" انكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء "
ويتبعها البنون ، لقول الرسول صلي الله عليه وسلم :"ان الولد مبخلة مجبنة محزنة "
( سنن ابن ماجه ، وصححه الألباني )
ثم القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث : لقول النبي صلي الله عليه وسلم :" ان لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال "
( سنن الترمذي )
قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :" ان مما أخشي عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الفتن " وفي رواية " ومضلات الهوي "
ووسيلة ضبطها " أي الشهوات " ذكرها بعد سردها كلها فقال سبحانه :" قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد * الذين يقولون ربنا اننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار * الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار "
( ال عمران :15-17 )
وهذا يدل علي الاعتقاد الجازم بقضاء الله ،وأن محل تحقيق شهوات النفس – دون الوقوع فيما يغضب الله – حيث يقول تعالي :" وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون "
– الغفلة ووسيلة ضبطها اليقظة والتذكر :
واليقظة تعني : طرد الغفلة والتفريط الذي يحصل للنفس البشرية ، وقد حذر الشارع الحكيم من الوقوع في ذلك فقال :" واتبعوا أحسن ما أنزل اليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون * أن تقول نفس يا حسرتي علي ما فرطت في جنب الله وان كنت لمن الساخرين "
( الزمر :55-56 )
والتفريط يعني : التقصير والتضييع وهو لا يحصل الا بالغفلة والنسيان ، أو التكاسل والاهمال
ولكن هناك أسباب أدت اليه وأوقعت فيه وهي كثيرة منها :ـ
أ ـ الانشغال التام بالدنيا
ب ـ الاقتصار علي بعض مظاهر التدين
ج ـ عدم ادراك قيمة النعم وقدر المنعم
ء ـ التسويف
3 ـ الحسد ووسيلة ضبطه :
مصدر الحسد نفس الانسان ، لقوله تعالي ـ" ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد ايمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق " ( البقرة :109 )
وهو ثاني المعاصي التي وقعت في الكون ، وتمثلت في قتل الانسان لأخيه الانسان ، وسببه النفس الغضبية أو السبعية ،
أي : عدم كظم غيظ النفس والاستسلام لظلمها وسببه الحسد الذي هو خلق في الانسان ويحتاج الي محاربته في نفسه والا أوقعه في النيران
وقد حسد قابيل أخاه هابيل لما قبل قربانه ولم يتقبل منه ، فقتله
كما حسد اخوة يوسف أخاهم وسعوا الي قتله حيث يقول تعالي حاكيا قولهم :" اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين " ( يوسف :9 )
وليس لهذا الداء من ضبط سوي :
الاستعانة بالله اولا ، ثم الصبر وتقوى الله
فمن وجد في نفسه حسدا لغيره فليستعمل معه الصبر والتقوي فيكره ذلك في نفسه
القيام بحقوق المحسود
عدم البغض :
وفي الحديث :" ثلاث لا ينجو منهن أحد : الحسد ، والظن ، والطيرة ، وسأحدثكم بما يخرج من ذلك : اذا حسدت فلا تبغض ، واذا ظننت فلا تحقق ، واذا تطيرت فامض
* العلم بأن الحسد ضرر علي الحاسد في الدين والدنيا ، ومنفعته للمحسود في الدين والدنيا
* الثناء علي المحسود وبره : قال تعالي :" ادفع بالتي هي أحسن فاذا الذي بينك وبينه عدواة كأنه ولي حميم "
( فصلت :34 )
القناعة بعطاء الله :
قال بعض الحكماء :" من رضي بقضاء الله تعالي لم يسخطه أحد ، ومن قنع بعطائه لم يدخله حسد ، فيكون راضيا عن ربه ممتلئ القلب به ، ويتقين بأن الحرمان أحيانا للانسان خير من العطاء ، وان المصيبة قد تكون له نعمة ، وأن الانسان أحيانا يحب ما هو شر له ويكره ما هو خير له
قمع أسباب الحسد :
فاما الدواء فهو تتبع أسباب الحسد من الكبر وغيره وعزة النفس وشدة الحرص علي ما لا يغني ، فهي مواد المرض ولا يقمع المرض الا بقمع المادة
بالاضافة الي هذه الآفات ، ذكر القرآن مجموعة من الأمراض تسيطر علي النفس وتقودها الي العصيان والخذلان ، منها :
الكبر ، لقوله تعالي - :" أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوي أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون " ( البقرة : 87 )
الشح لقوله تعالي :ـ " وأحضرت الأنفس الشح " ( النساء :128 )
الاغترار بالرأي الشخصي واتباع الظن ، لقوله تعالي : " ان يتبعون الا الظن وما تهوي الأنفس " ( النجم :23 )
· ضوابط أساسية لضبط النفس ومن اهمها :
1- الاستعانة بعبادة الله تعالي :
التقرب الي الله عز وجل بما يحب من الاقوال والاعمال الظاهرة والباطنة وخير ما تقرب به المتقربون الي الله الفرائض التي فرضها الله جلا وعلا وعلي رأسها توحيد الله ، ثم ان في النوافل لمجالا واسعا عظيما لمن اراد ان يرتقي الي مراتب عالية عند الله ، كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه :" وما تقرب الي عبدي بشئ أحب الي مما افترضته عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب الي بالنوافل حتي أحبه فاذا أحببته ، كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ،ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه
" ( رواه : البخاري )
ومن فضل الله علينا أن جاء هذا الدين بعبادات شتي ، تملأ حياة المسلم في كل الظروف والأحوال ، بالليل والنهار ، بالقلب والبدن التي يعتبر أداؤها من اهم عوامل ضبط النفس ، من قيام ليل وصيام تطوع وصدقة وقراءة قرآن ، وذكر لله آناء الليل وأطراف النهار ، لا شك هذه العبادات تقوي الصلة بين العبد وربه ، وتوثق عري الايمان في القلب ، فتضبط النفس وتزكو بها ، وتأخذ من كل نوع من العبادات المتعددة بنصيب فلا تكل ولا تسأم ، لكن الانتباه لأمور ترد أمر اساسي ومنها :
1ـ الحذر من تحول العبادة الي عادة
2- الحذر من تقديم المهم علي الأهم كالنوافل علي الفرائض ـ كمن يقوم الليل مثلا ثم ينام عن صلاة الفجر
3- تقديم الواجب عند تعارضه مع المستحب
4ـ التركيز علي أعمال القلوب ، وتقديمها علي اعمال الجوارح : لقول رسول الله صلي الله عليه وسلم :" الا وان في الجسد مضغة اذا صلحت صلح الجسد كله ، واذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب "
ان استشعار المؤمن المكاره التي تحف بالجنة ، يتطلب منه همة عالية تتناسب مع ذلك المطلب العالي للتغلب عليها
وقد قيل للامام أحمد : يا امام ! متي الراحة ؟ فيقول وهو يدعو الي المجاهدة : الراحة عند اول قدم تضعها في الجنة
يقول ثابت البناني : تعذبت بالصلاة عشرين سنة ، ثم تنعمت بها عشرين سنة اخري ، والله اني لأدخل في الصلاة فأحمل هم خروجي منها
هذه هي الصلاة التي تعد رمز الضبط والانضباط قال تعالي - :" واستعينوا بالصبر والصلاة "
( البقرة :45 )
وقوله تعالي :" ان الانسان خلق هلوعا * اذا مسه الشر جزوعا * واذا مسه الخير منوعا * الا المصلين "
( المعارج : 19- 22 )
فالهلع والجزع والمنع نقائص وعيوب ، وعلاجها يكون بالصلاة وعموم الطاعات والعبادات
فهي قيام ومثول بين يدي الله سبحانه وتعالي وحقها حضور القلب وخشوع الجوارح ، قال الله تعالي " فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون "
( الماعون :4- 5 )
لكن كم من مصلي ليس له من صلاته الا التعب والنصب ! كم من مصلي يصلي الصلاة ما يكتب له منها الا النصف او الثلث ! وأن ليس للانسان من صلاته الا ما عقل منها
ثم ان الصلاة مضبوطة بأزمنة وأمكنة ، فالأزمنة منها ما هو اختياري ومنها ما هو اضطراري ، والأمكنة منها ما هو فاضل كالمسجد الحرام والمسجد الاقصي والمسجد النبوي ، ومنها ما هو عادي كسائر المساجد ، ومن الأمكنة ما تحرم فيه الصلاة أو تكره كالمزبلة والمقبرة والمجزرة
والصلاة مضبوطة بالامام والمأموم ، وتكبيرة الاحرام والتسليم ،وبالركوع والسجود
انها الصلاة التي كانت راحة لرسول الله صلي الله عليه وسلم كما أخبر الصادق المصدوق يوما فقال لصاحبه :"أرحنا بها يا بلال " عكس أبناء الأمة اليوم الذين يقولون "أرحنا منها " وان لم تنطق بها شفاههم ، فان افعالهم بها ناطقة ، أنها مفزع رسول الله صلي الله عليه وسلم حيث كان " كلما حزبه أمر صلي " وهي قرة عينه صلي الله عليه وسلم كما قال :" حبب الي من دنياكم الطيب والنساء ، وجعلت قرة عيني في الصلاة "
انها المعين الحقيقي علي تقوية الايمان ، فاقامة الصلاة بأداء أركانها وسننها وهيئاتها في أوقاتها يوصل الانسان الي تحقيق تلك الصلة المطلوبة بين العبد وربه ، وحري بمن فعل ذلك أن يعينه الله ، كما قال عمر في رسالة لعماله :" ان أهم أموركم عندي الصلاة ، من حفظها أو حافظ عليها حفظ دينه ، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع "
فهي فريضة لا تسقط ابدا مع جميع الأعذار ، سواء كان مرضا أو خوفا
والعجيب في القرآن أنه عند حديثه عن فلاح المؤمنين ذكر من صفاتهم الست ، الصلاة مرتين ، حيث بدأ بها وختم بها ، فكان البدء بالخشوع فيها والختم بالمحافظة عليها ، فقال الله تعالي " قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون & وفي الاية التاسعة " والذين هم علي صلواتهم يحافظون
( المؤمنون :1-2 -9 )
أنها مضخة الاطفاء التي تطفئ النار المشتعلة الموقدة التي تلفح القلوب والعقول ، وممحاة للذنوب ، حيث يروي لنا سلمان الفارسي رضي الله عنه – أنه كان يوما مع رسول الله صلي الله عليه وسلم تحت شجرة فأخذ منها غصنا يابسا ، فهزه حتي تحات ورقه ، ثم قال : يا سلمان ! ألا تسألني لم أفعل هذا ؟ قلت : ولم تفعله ؟ قال : ان المسلم اذا توضأ فأحسن الوضوء ، ثم صلي الصلوات الخمس تحاتت خطاياه كما تحات هذا الورق ، ثم تلا :" وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ان الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكري للذاكرين "
( هود :114 )
بل انها كالماء الذي يطفئ النار وسوادها ويغسل أثرها من بين جوانح الانسان ، لهذا قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " ان لله ملكا ينادي عند كل صلاة يا بني آدم قوموا الي نيرانكم التي أوقدتموها فأطفئوها "
وهو ما شرحه ابن مسعود :" تحترقون تحترقون ، فاذا صليتم الصبح غسلتها ، ثم تحترقون تحترقون ، فاذا صليتم العصر غسلتها ، ثم تحترقون تحترقون ، فاذا صليت المغرب غسلتها ، ثم تحترقون تحترقون فاذا صليتم العشاء غسلتها ، ثم تنامون فلا تكتب عليكم حتي تستيقظوا "
ومما يفيد النفس ويضبطها ويزكيها أمام باريها كثرة الذكر والاستغفار لقوله تعالي :" ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما "
( النساء :110 )
2 – الاستعانة بمحاسبة النفس :
قال الله تعالي :" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله ان الله خبير بما تعملون "
( الحشر :18 )
ومحاسبة النفس تكون قبل العمل ، كما قال الحسن البصري :" رحم الله عبدا وقف عند همه ، فان كان لله أمضاه ، وان كان لغيره تأخر "
3 – تنمية الصفات الطيبة :
وذلك حتي يكون لها الغلبة ، مثل : صفات الحلم والكرم والتواضع والشكر ، ولا يكفي في ذلك قراءة كتاب أو حفظ نصوص ، لكن تحصيلها لا بد له من مجاهدة وتمرن وتدريب، فمثلا من أراد أن يكون حليما ، فهذا ينبغي له أن يقوي ايمانه ويزيد في صبره ويكظم غيظه ويملك نفسه في مواقف الغضب ، قال صلي الله عليه وسلم :" انما الحلم بالتحلم "
وقد أثني الله جلا وعلا ـ علي الكاظمين الغيظ ، فقال الله تعالي :" وسارعوا الي مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والارض أعدت للمتقين * الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين "
( ال عمران : 133-134 )
فالحديث عن المتقين هنا هو حديث عن صفة مهمة من صفاتهم ، وهي كظم الغيظ ، وهو أحد أهم الوسائل المعينة علي ضبط النفس
قال القرطبي في معناه :"كظم الغيظ رده في الجوف "
ويقال : كظم غيظه أي سكت عليه ولم يظهره مع قدرته علي ايقاعه بعدوه ، فكظم الغيظ هو منعه من ان يقع
ومن خلال ما ذكر نستطيع القول بان ضبط النفس في مثل هذه الحالة ، يكون بمنعها من التصرف خطأ في المواقف الطارئة والمفاجئة التي تتطلب قدرا من الشجاعة والحكمة وحسن التصرف وهناك احاديث عن فضل كظم الغيظ ومن ثم ضبط النفس ، منها : ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما – قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :" ما من جرعة أعظم عند الله من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله "
وبايجاز فضبط النفس يقتضي من المسلم ان يتجاوز مرحلة البناء التي يجب الا تتوقف ، باعتبار استمرارها الي اخر رمق من عمر الانسان لقوله تعالي :"واعبد ربك حتي يأتيك اليقين "
( الحجر :99 )