الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الفصل الأول
الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله من الدين . فإن رسالة الله : إما إخبار ، و إما إنشاء . فالإخبار عن نفسه وعن خلقه : مثل التوحيد والقصص الذي يندرج فيه الوعد والوعيد . والإنشاء الأمر والنهي والإباحة .
وهذا كما ذكر في أن : (( قل: هو الله أحد )) . تعدل ثلث القرآن؛ لتضمنها ثلث التوحيد ؛ إذ هو قصص ؛ وتوحيد؛ وأمر . وقوله سبحانه في صفة نبينا صلى الله عليه وسلم ، : ( يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) (الأعراف: من الآية157) . هو بيان لكمال رسالته ؛ فإنه صلى الله عليه وسلم ، هو الذي أمر الله على لسانه بكل معروف ، ونهى عن كل منكر ؛ وأحل كل طيب وحرم كل خبيث ، ولهذا روي عنه أنه قال : (( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )) . وقال في الحديث المتفق عليه : (( مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بن داراً فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة، فكان الناس يطيفون بها ويعجبون من حسنها : ويقولون : لولا موضع اللبنة ! فأنا تلك اللبنة )).
فبه كمل دين الله المتضمن للأمر بكل معروف والنهي عن كل منكر ، وإحلال كل طيب وتحريم كل خبيث . و أما من قبله من الرسل فقد كان يحرم على أممهم بعض الطيبات ، كما قال فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ)(النساء: من الآية160). وربما لم يحرم عليهم جميع الخبائث ، كما قال تعالى كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاة) (آل عمران: من الآية93).
وتحريم الخبائث يندرج في معنى : (( النهي عن المنكر )) كما أن إحلال الطيبات يندرج في : (( الأمر بالمعروف )) لأن تحريم الطيبات مما نهى الله عنه ، وكذلك الأمر بجميع المعروف والنهي عن كل منكر مما لم يتم إلا للرسول ؛ الذي تمم الله به مكارم الأخلاق المندرجة في المعروف ، وقد قال الله تعالى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً ) (المائدة: من الآية3) . فقد أكمل الله لنا الدين ، وأتم علينا النعمة ، ورضي لنا الإسلام ديناً .
وكذلك وصف الأمة بما وصف به نبيها حيث قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه) (آل عمران: من الآية110). وقال تعالى وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر)(التوبة: من الآية71). ولهذا قال أبو هريرة : كنتم خير الناس للناس ، تأتون بهم في الأقياد والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة .
فبيّن سبحانه أن هذه الأمة خير الأمم للناس : فهم أنفعهم لهم ، وأعظمهم إحساناً إليهم ، لأنهم كملوا أمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر من جهة الصفة والقدر ، حيث أمروا بكل معروف ونهوا عن كل منكر لكل أحد ، وأقاموا ذلك بالجهاد في سبيل الله بأنفسهم و أموالهم ، وهذا كمال النفع للخلق .
وسائر الأمم لم يأمروا كل أحد بكل معروف ؛ ولا نهوا كل أحد عن كل منكر ، ولا جاهدوا على ذلك . بل منهم من لم يجاهد ، والذين جاهدوا كبني إسرائيل فعامة جهادهم كان لدفع عدوهم عن أرضهم ، كما يقاتل الصائل الظالم ؛ لا لدعوة المجاهدين و أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، كما قال موسى لقومه : (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ . قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ) إلى قوله قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة:21-24) . و قال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) (البقرة: من الآية246). فعللوا القتال بأنهم أخرجوا من ديارهم و أبنائهم ، ومع هذا فكانوا ناكلين عما أمروا به من ذلك ؛ ولهذا لم تحل لهم الغنائم ؛ ولم يكونوا يطؤون بملك اليمين .
ومعلوم أن أعظم الأمم المؤمنين قبلنا بنوا إسرائيل ؛ كما جاء في الحديث المتفق على صحته في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم ، يوماً فقال: (( عرضت عليّ الأمم ؛ فجعل يمر النبي ومعه الرجل ؛ والنبي و معه الرجلان ؛ والنبي معه الرهط ؛ والنبي ليس معه أحد، ورأيت سواداً كثيراً سد الأفق فرجوت أن يكون أمتي ؛ فقيل: هذا موسى وقومه . ثم قيل لي انظر فرأيت سواداً كثيراً سد الأفق ، فقيل : هؤلاء أمتك ! ومع هؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب )) فتفّرق الناس ولم يبين لهم فتذاكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : أما نحن فولدنا في الشرك ولكنا آمنا بالله ورسوله ؛ ولكن هؤلاء أبناؤنا ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (( هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ؛ ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون )) ؛ فقام عكاشة بن محصن فقال :أمنهم أنا يارسول الله ؟ قال : (( نعم ! )) فقام آخر فقال : أمنهم أنا ؟ فقال : (( سبقك بها عكاشة )).
ولهذا كان إجماع هذه الأمة حجة ؛ لأن الله تعالى أخبر أنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر ؛ فلو اتفقوا على إباحة محرم أو إسقاط واجب ؛ أو تحريم حلال أو إخبار عن الله تعالى ؛ أو خلقه بباطل : لكانوا متصفين بالأمر بمنكر والنهي عن معروف : من الكلم الطيب والعمل الصالح ؛ بل الآية تقتضي أن ما لم تأمر به أمة فليس من المعروف ، وما لم تنه عنه فليس من المنكر. وإذا كانت آمرة بكل معروف ناهية عن كل منكر: فكيف يجوز أن تأمر كلها بمنكر أن تنهى كلها عن معروف ؟ والله تعالى كما أخبر بأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فقد أوجب ذلك على الكفاية منها بقوله : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104).
وإذا أخبر بوقوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منها لم يكن من شرط ذلك أن يصل أمر الآمر ونهي الناهي منها إلى كل مكلف في العالم ؛ إذ ليس هذا من شرط تبليغ الرسالة : فكيف يشترط فيما هو من توابعها ؟ بل الشرط أن يتمكن المكلفون من وصول ذلك إليهم . ثم إذا فرّطوا فلم يسعوا في وصوله إليهم مع قيام فاعله بما يجب عليه : كان التفريط منهم لا منه .
وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجب على كل أحد بعينه ، بل هو على الكفاية ، كما دل عليه القرآن ، ولما كان الجهاد من تمام ذلك كان الجهاد أيضاً كذلك ، فإذا لم يقم به من يقوم بواجبه أثم كل قادر بحسب قدرته ، إذ هو واجب على كل إنسان بحسب قدرته ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم بستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان )). وإذا كان كذلك ؛ فمعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإتمامه بالجهاد هو من أعظم المعروف الذي أمرنا به ؛ ولهذا قيل : ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر .
وإذا كان هو من أعظم الواجبات والمستحبات فالواجبات و المستحبات لابد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة ؛ إذ بهذا بعثت الرسل ونزلت الكتب ، والله لا يحب الفساد ؛ بل كل ما أمر الله به فهو صلاح . وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين والذين آمنوا و عملوا الصالحات ، وذم المفسدين في غير موضع ، فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم تكن مما أمر الله به ، وإن كان قد ترك واجب وفعل محرم ؛ إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباده وليس عليه هداهم ، وهذا معنى قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) (المائدة: من الآية105). والاهتداء إنما يتم بأداء الواجب ، فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضلال .
وذلك يكون تارة بالقلب ؛ وتارة باللسان؛ وتارة باليد . فإما القلب فيجب بكل حال ؛ إذ لا ضرر في فعله ومن لم يفعله فليس هو بمؤمن ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( وذلك أدنى - أو- أضعف الإيمان )) ، وقال : (( ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل )) وقيل لابن مسعود : من ميت الأحياء ؟ فقال : الذي لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً . وهذا هو المفتون الموصوف في حديث حذيفة بن اليمان .
[بعض أغلاط الناس في مفهوم الأمر بالمعروف ]
وهنا يغلط فريقان من الناس: فريق يترك ما يجب من الأمر والنهي تأويلاً لهذه الآية ؛ كما قال أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – في خطبته : إنكم تقرؤون هذه الآية : ( عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) . و إنكم تضعونها في غير موضعها ، و إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منها )).
والفريق الثاني : من يريد أن يأمر و ينهى إما بلسانه وإما بيده مطلقاً من غير فقه وحلم وصبر و نظر فيما يصلح من ذلك ومالا يصلح ، وما يقدر عليه ومالا يقد ، كما في حديث أبي ثعلبة الخشني : سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحّاً مطاعاً وهوى متبعاً وديناً مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، ورأيت أمراً لا يدان لك به ، فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام ، فإن من ورائك أيام الصبر فيهن على مثل قبض على الجمر ، للعامل فيهن كأجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله )) فيأتي بالأمر والنهي معتقداً أنه مطيع في ذلك لله ورسوله وهو معتد في حدوده ، كما انتصب كثير من أهل البدع والأهواء ؛ كالخوارج والمعتزلة والرافضة ؛ وغيرهم ممن غلط فيما أتاه من الأمر والنهي و الجهاد على ذلك ، وكان فساده أعظم من صلاحه ، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة ، ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة ، وقال: (( أدوا إليهم حقوقهم ، وسلوا الله حقوقكم )). وقد بسطنا القول في ذلك في غير هذا الموضع .
ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة وترك قتال الأئمة وترك القتال في الفتنة ، وأما أهل الأهواء – كالمعتزلة – فيرون القتال للأئمة من أصول دينهم ، ويجعل المعتزلة أصول دينهم خمسة : (( التوحيد )) الذي هو سلب الصفات ، (( والعدل )) الذي هو التكذيب بالقدر ، و (( المنزلة بين المنزلتين )) و (( إنفاذ الوعيد )) و (( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر )) الذي منه قتال الأئمة . وقد تكلمت على قتال الأئمة في غير هذا الموضع .
وجماع ذلك داخل في (( القاعدة العامة )): فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت ، فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد ، وتعارضت المصالح والمفاسد . فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له ، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به ، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته ، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة ، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها ، و إلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر ، وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام .
[ حكم من يجمع بين المعروف والمنكر ]
وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما ، بل إما أن يفعلوهما جميعاً ، أو يتركوهما جميعاً : لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر ، بل ينظر : فإن كان المعروف أكثر أمر به ، وإن استلزم ماهو دونه من المنكر .
ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه ؛ بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسول وزوال فعل الحسنات ، وإن كان المنكر أغلب نهي عنه ، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف ، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمراً بمنكر وسعياً في معصية الله ورسوله .
و إن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما . فتارة يصلح الأمر ، وتارة يصلح النهي ، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي حيث كان المعروف والمنكر متلازمين ؛ وذلك في الأمور المعينة الواقعة .
وأما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقاً وينهى عن المنكر مطلقاً .
وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة يؤمر بمعروفها وينهى عن منكرها ، ويحمد محمودها ويذم مذمومها ، بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات أكثر منه أو حصول منكر فوقه ، ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول أنكر منه ، أو فوات معروف أرجح منه .
وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق ، فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية، وإذا تركها كان عاصياً ، فترك الأمر الواجب معصية ، وفعل ما نهى عنه من الأمر معصية . وهذا باب واسع ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ومن هذا الباب إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن أُبي و أمثاله من أئمة النفاق والفجور لما لهم من أعوان ، فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزم إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم ، وبنفور الناس في قصة الإفك بما خاطبهم به واعتذر منه ، وقال له سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه : حمى له سعد بن عبادة مع حسن إيمانه.
و أصل هذا أن تكون محبة الإنسان للمعروف وبغضه للمنكر ، وإرادته لهذا ، وكراهته لهذا : موافقة لحب الله وبغضه ، و إرادته وكراهته الشرعيين . وأن يكون فعله للمحبوب ودفعه للمكروه بحسب قوته وقدرته ، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها ، وقد قال: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ )(التغابن: من الآية16) .
فأما حب القلب وبغضه و إرادته وكراهيته فينبغي أن تكون كاملة جازمة ، لا يوجب نقص ذلك إلا نقص الإيمان . و أما فعل البدن فهو بحسب قدرته ، ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة تامة وفعل العبد معها بحسب قدرته : فإنه يعطى ثواب الفاعل الكامل ، كما قد بيناه في غير هذا الموضع ، فإن من الناس من يكون حبه وبغضه و إرادته وكراهته بحسب محبة نفسه وبغضها ، لا بحسب محبة الله ورسوله وبغض الله ورسوله ، وهذا من نوع الهوى ، فإن اتبعه الإنسان فقد اتبع هواه : ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ) (القصص: من الآية50)
[ أثر الهوى في الاحتساب ]
فإن أصل الهوى محبة النفس ، ويتبع ذلك بغضها ، ونفس الهوى – وهو الحب والبغض الذي في النفس – لايلام عليه ، فإن ذلك قد لايملك ،و أنها يلام على اتباعه كما قال تعالى يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)(صّ: من الآية26) و قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( ثلاث منجيات : خشية الله في السر والعلانية ، والقصد في الفقر والغنى ، وكلمة الحق في الغضب والرضا . وثلاث مهلكات: شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه )).
والحب والبغض يتبعه ذوق عند وجود المحبوب والمبغض ، ووجد و إرادة ، وغير ذلك ، فمن اتبع ذلك بغير أمر الله ورسوله فهو ممن اتبع هواه بغير هدي من الله ، بل قد يصعد به الأمر إلى أن يتخذ إلهه هواه ، و اتباع الأهواء في الديانات أعظم من اتباع الأهواء في الشهوات ، فإن الأول حال الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين كما قال تعالى: ( فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ)(القصص: من الآية50) وقال تعالى : ( ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ)(الروم: من الآية28) إلى أن قال : ( بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ)(الروم: من الآية29) وقال تعالى : ( وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام: من الآية119) ، وقال الله تعالى : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) (المائدة:77) .
وقال تعالى : ( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (البقرة:120). وقال تعالى : ( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (البقرة: من الآية145) وقال تعالى وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُم) (المائدة: من الآية49).
ولهذا كان من خرج عن موجب الكتاب والسنة من العلماء والعباد يجعل من أهل الأهواء كما كان السلف يسمونهم أهل الأهواء ، وذلك أن كل من لم يتبع العلم فقد اتبع هواه و العلم بالدين لا يكون إلا بهدي الله الذي بعث به رسوله ولهذا قال تعالى: (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام: من الآية119) وقال في موضع آخر وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّه) (القصص: من الآية50).
فالواجب على العبد أن ينظر في نفس حبه وبغضه ، ومقدار حبه وبغضه : هل هو موافق لأمر الله ورسوله ؟ وهو هدي الله الذي أنزله على رسوله ، بحيث يكون مأموراً بذلك الحب والبغض ، لا يكون متقدماً فيه بين يدي الله ورسوله ، فإنه قد قال: ( لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) (الحجرات: من الآية1) .
ومن أحب أو أبغض قبل أن يأمره الله ورسوله ففيه نوع من التقدم بين يدي الله ورسوله . ومجرد الحب والبغض هوى ، لكن المحرم اتباع حبه وبغضه بغير هدي من الله ولهذا قال تعالى: ( وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيد) (صّ: من الآية26) فأخبر أن من اتبع هواه أضله ذلك عن سبيل الله وهو هداه الذي بعث به رسوله وهو السبيل إليه .
[فضل الأمر بالمعروف وآدابه]
وتحقيق ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من أوجب الأعمال وأفضلها وأحسنها وقد قال تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الملك: من الآية2). وهو كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله : أخلصه و أصوبه .
فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً والخالص : أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة ، فالعمل الصالح لابد أن يراد به وجه الله تعالى ، فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه وحده ؛ كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( يقول الله أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا بريء منه ، وهو كله للذي أشرك )).
وهذا هو التوحيد الذي هو أصل الإسلام وهو دين الله الذي بعث به جميع رسله وله خلق الخلق ، وهو حقه على عباده : أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ولابد مع ذلك أن يكون العمل صالحاً ، وهو ما أمر الله به ورسوله ، وهو الطاعة فكل طاعة عمل صالح وكل عمل صالح طاعة وهو العمل المشروع المسنون إذ المشروع المسنون هو المأمور به أمر إيجاب أو استحباب وهو العمل الصالح ، وهو الحسن ، وهو البر ، و هو الخير ، وضده المعصية والعمل الفاسد ، والسيئة ، والفجور والظلم .
ولما كان العمل لابد فيه من شيئين: النية والحركة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( أصدق الأسماء حارث وهمام )) . فكل أحد حارث وهمام له عمل ونية ، لكن النية المحمودة التي يتقبلها الله ويثيب عليها : أن يراد الله بذلك العمل . والعمل المحمود : الصالح ، وهو المأمور به ، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه : اللهم اجعل عملي كله صالحاً ، واجعله لوجهك خالصاً ، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً .
وإذا كان هذا حد كل علم صالح ، فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يجب أن يكون هكذا في حق نفسه ، ولا يكون عمله صالحاً إن لم يكن بعلم وفقه ، وكما قال عمر بن عبد العزيز : من عبدالله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح ، وكما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه : (( العلم إمام العمل والعمل تابعه )). وهذا ظاهر فإن القصد والعمل إن لم يكن بعلم كان جهلاً وضلالاً و اتباعاً للهوى كما تقدم ، وهذا هو الفرق بين أهل الجاهلية و أهل الإسلام ، فلابد من العلم بالمعروف والمنكر والتمييز بينهما . ولا بد من العلم بحال المأمور والمنهي ، ومن الصلاح أن يأتي بالأمر والنهي بالصراط المستقيم ، وهو أقرب الطرق إلى حصول المقصود .
ولابد في ذلك من الرفق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( ما كان الرفق في شيء إلا زانه ، ولا كان العنف في شيء إلا شانه )) . وقال: (( إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله ، ويعطي عليه مالا يعطي على العنف )). ولابد أيضاً أن يكون حليماً صبوراً على الأذى : فإنه لابد أن يحصل أذى ، فإن لم يحلم ويصبر كان ما يفسد أكثر مما يصلح : كما قال لقمان لابنه وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (لقمان: من الآية17).
ولهذا أمر الله الرسل – وهم أئمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – بالصبر كقوله لخاتم الرسل ، بل ذلك مقرون بتبليغ الرسالة ، فإنه أول ما أرسل أنزلت عليه سورة : (( يا أيها المدثر )) بعد أن أنزلت عليه سورة : (( اقرأ )) . التي به نُبئ فقال: ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ {1} قُمْ فَأَنذِرْ {2} وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ {3} وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ {4}وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ {5} وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ {6} وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ {7}) (المدثر:1-7) فافتتح آيات الإرسال إلى الخلق بالأمر بالنذارة ، وختمها بالأمر بالصبر ، ونفس الإنذار أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ، فعلم أنه يجب بعد ذلك الصبر وقال : ( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)(الطور: من الآية48) وقال تعالى وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) (المزمل:10) . ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) (الأحقاف: من الآية35). ( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوت) (القلم: من الآية48) (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ)(النحل: من الآية127) (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (هود:115) .
فلابد من هذه الثلاثة : العلم ، الرفق ، الصبر . العلم قبل الأمر والنهي ، والرفق معه، والصبر بعده ، وإن كان كل من الثلاثة مستصحباً في هذه الأحوال ، وهذا كما جاء في الأثر عن بعض السلف ورووه مرفوعاً ، ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد : (( لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيهاً فيما يأمر به ، حليماً فيما ينهى عنه )).
وليعلم أن الأمر بهذه الخصال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يوجب صعوبة على كثير من النفوس ، فيظن أنه بذلك يسقط عنه ، فيدعه ، وذلك مما يضره أكثر مما يضره الأمر بدون هذه الخصال أو أقل ، فإن ترك الأمر الواجب معصية ، فالمنتقل من معصية إلى معصية كالمنتقل من دين باطل إلى دين باطل ، وقد يكون الثاني شراً من الأول ، وقد يكون دونه ، وقد يكونان سواء ، فهكذا تجد المقصر في الأمر والنهي والمتعدي فيه قد يكون ذنب هذا أعظم ، وقد يكون ذنب هذا أعظم ، وقد يكونان سواء .
آثار المعاصي
ومن المعلوم بما أرانا الله من آياته في الآفاق وفي أنفسنا وبما شهد به في كتابه : أن المعاصي سبب المصائب ، فسيئات المصائب والجزاء من سيئات الأعمال ، وإن الطاعة سبب النعمة ، فإحسان العمل سبب لإحسان الله ، قال تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (الشورى:30) وقال تعالى : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (النساء: من الآية79) وقال تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ }(آل عمران: من الآية155) وقال تعالى:{ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ }(آل عمران: من الآية165) وقال :{ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} (الشورى:34) وقال تعالى:{ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْأِنْسَانَ كَفُورٌ} (الشورى: من الآية48) وقال تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (لأنفال:33) . وقد أخبر سبحانه بما عاقب به أهل السيئات من الأمم ، كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط، وأصحاب مدين ،وقوم فرعون ، في الدنيا ، و أخبر بما يعاقبهم به في الآخرة , لهذا قال مؤمن آل فرعون :{ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ {30} مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ {31} وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ {33} (غافر:30-33). وقال تعالى :{ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (القلم:33) وقال: { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} (التوبة: من الآية101) وقال: { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (السجدة:21). وقال: { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ . .. إلى قوله : { يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ } (الدخان:10-16) . ولهذا يذكر الله في عامة سور الإنذار ما عاقب به أهل السيئات في الدنيا وما أعده لهم في الآخرة ، وقد يذكر في السورة وعد الآخرة فقط ، إذ عذاب الآخرة أعظم ، وثوابها أعظم ، وهي دار القرار ، وإنما يذكر ما يذكره من الثواب و العذاب في الدنيا تبعاً ، كقوله في قصة يوسف : { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (يوسف:56-57). وقال تعالى : { فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران:148) وقال :{ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ. الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (النحل:41-42). وقال عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام : { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (العنكبوت: من الآية27) . وأما ذكره لعقوبة الدنيا والآخرة ففي سورة : { وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا {1} وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا } ثم قال :{ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ {6} تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ {7} فذكر القيام مطلقاً ثم قال : { هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى {15}إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى {16} اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى {17}، إلى قوله :{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى ثم ذكر المبدأ والمعاد مفصلاً فقال: { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا } إلى قوله : { فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى {34} .. إلى قوله : { فَأَمَّا مَن طَغَى {37} وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا {38} فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى {39} وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى {40} فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } إلى آخر السورة. وكذلك في(المزمل) ذكر قوله: { وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا {11} إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا } . إلى قوله :{ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا {15} فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا } . وكذلك في(سورة الحاقة ) ذكر قصص الأمم ، كثمود وعاد وفرعون ثم قال تعالى : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ {13} وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } إلى تمام ما ذكره من أمر الجنة والنار. وكذلك في(سورة ن والقلم ) . ذكر قصة أهل البستان الذين منعوا حق أموالهم وما عاقبهم به، ثم قال :{ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }. وكذلك في ( سورة التغابن ) قال : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {5} ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } ثم قال: { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ } . وكذلك في ( سورة ق ) ذكر حال المخالفين للرسل ، وذكر الوعد والوعيد في الآخرة . وكذلك في ( سورة القمر) ذكر هذا وهذا . وكذلك في ( أل حم) مثل حم غافر ، و السجدة ، والزخرف ، والدخان ، وغير ذلك ، إلى غير ذلك مما لا يحصى . فإن التوحيد والوعد والوعيد هو أول ما أنزل ، كما في صحيح البخاري عن يوسف بن ماهك قال : إني عند عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إذ جاءها عراقي فقال : أي الكفن خير ؟ قالت : ويحك ! وما يضرك ؟ قال : يا أم المؤمنين ! أريني مصحفك . قالت : لم ؟ قال : لعلي أؤلف القرآن عليه ، فإنه يقرأ غير مؤلف ، قالت : وما يضرك أية قرأت قبل ، إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار ، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا : لا ندع الخمر أبداً ، ولو نزل لا تزنوا لقالوا : لا ندع الزنا أبداً ، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم ، و أني لجارية ألعب : { بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} (القمر:46) . وما نزلت : (سورة البقرة ) و( النساء ) إلا وأنا عنده ، قال : فأخرجتَ له المصحف فأملت عليه آي السور. وإذا كان الكفر والفسوق والعصيان سبب الشر والعدوان فقد يذنب الرجل أو الطائفة ويسكت آخرون عن الأمر والنهي ، فيكون ذلك من ذنوبهم ، وينكر عليهم آخرون إنكاراً منهيا عنه فيكون ذلك من ذنوبهم ، فيحصل التفرق والاختلاف والشر ، وهذا من أعظم الفتن والشرور قديماً وحديثاً ، إذ الإنسان ظلوم جهول ، والظلم والجهل أنواع ، فيكون ظلم الأول وجهله من نوع، وظلم كل من الثاني والثالث وجهلهما من نوع آخر وآخر. ومن تدبر الفتن الواقعة رأى سببها ذلك ، ورأى أن ما وقع بين أمراء الأمة وعلمائها ومن دخل في ذلك من ملوكها ومشايخها ، ومن تبعهم من العامة من الفتن : هذا أصلها ، يدخل في ذلك أسباب الضلال والغي : التي هي الأهواء الدينية والشهوانية ، وهي البدع في الدين والفجور في الدنيا ، وهي مشتركة : تعم بني آدم لما فيهم من الظلم والجهل ، فبذنب بعض الناس يظلم نفسه وغيره ، كالزنا واللواط وغيره ، أو شرب خمر أو ظلم في المال بخيانة أو سرقة أو غصب أو نحو ذلك . ومعلوم أن هذه المعاصي و إن كانت مستقبحة مذمومة في العقل والدين فهي مشتهاة أيضاً ، ومن شأن النفوس أنها لا تحب اختصاص غيرها بها ، لكن تريد أن يحصل لها ما حصل له ، وهذا هو الغبطة التي هي أدنى نوعي الحسد ، فهي تريد الاستعلاء على الغير والاستئثار دونه ، أو تحسده وتتمنى زوال النعمة عنه وإن لم يحصل ، ففيها من إرادة العلو والفساد والاستكبار والحسد ما مقتضاه أنها تختص عن غيرها بالشهوات ؛ فكيف إذا رأت الغير قد استأثر عليها بذلك واختص بها دونها ؟ فالمعتدل منهم في ذلك الذي يحب الاشتراك والتساوي ، وأما الآخر فظلوم حسود . وهذان يقعان في الأمور المباحة والأمور المحرمة لحق الله ، فما كان جنسه مباحاً من أكل وشرب ونكاح ولباس و ركوب وأموال : إذا وقع فيها الاختصاص حصل الظلم والبخل والحسد ، وأصلها الشح ، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( إياكم والشح ، فإنه أهلك من كان قبلكم : أمرهم بالبخل فبخلوا ، وأمرهم بالظلم فظلموا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا)). ويقال : الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم و الإسلام . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم )) . فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفوراً له مرحوماً في الآخرة ، وذلك أن العدل نظام كل شيء ، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة ، فالنفس فيها داعي الظلم لغيرها بالعلو عليه والحسد له ، والتعدي عليه في حقه . وداعي الظلم لنفسها بتناول الشهوات القبيحة كالزنا وأكل الخبائث . فهي قد تظلم من لا يظلمها ، وتؤثر هذه الشوات وإن لم تفعلها ، فإذا رأت نظراءها قد ظلموا وتناولوا هذه الشهوات صار داعي هذه الشهوات أو الظلم فيها أعظم بكثير ، وقد تصبر ، ويهيج ذلك لها من بغض ذلك الغير وحسده وطلب عقابه وزوال الخير عنه مالم يكن فيها قبل ذلك ،ولها حجة عند نفسها من جهة العقل والدين ، يكون ذلك الغير قد ظلم نفسه والمسلمين ، وأن أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر واجب ، و الجهاد على ذلك من الدين . والناس هنا ثلاثة أقسام : قوم لا يقومون إلا في أهواء نفوسهم ، فلا يرضون إلا بما يعطونه ،ولا يغضبون إلا لما يحرمونه ، فإذا أعطي أحدهم ما يشتهيه من الشهوات الحلال والحرام زال غضبه وحصل رضاه ، وصار الأمر الذي كان عنده منكراً ينهى عنه ويعاقب عليه ، ويذم صاحبه ويغضب عليه مرضياً عنده ، وصار فاعلاً له وشريكاً فيه ، ومعاوناً عليه ،ومعادياً لمن نهى عنه وينكر عليه ،وهذا غالب في بني آدم ، يرى الإنسان ويسمع من ذلك مالا يحصيه ، وسببه: أن الإنسان ظلوم جهول ، فلذلك لا يعدل ، بل ربما كان ظالماً في الحالين ، يرى قوماً ينكرون على المتولي ظلمه لرعيته واعتدائه عليهم ، فيرضى أولئك المنكرين ببعض الشيء فينقلبون أعواناً له ، و أحسن أحوالهم أن يسكتوا عن الإنكار عليه ، وكذلك تراهم ينكرون على من يشرب الخمر ويزني ويسمع الملاهي ، حتى يدخلوا أحدهم معهم في ذلك ، أو يرضوه ببعض ذلك ، فتراه قد صار عوناً لهم ، وهؤلاء قد يعودون بإنكارهم إلى أقبح من الحال التي كانوا عليها ، وقد يعودون إلى ما هو دون ذلك أو نظيره .
وقوم يقومون ديانة صحيحة ، يكونون في ذلك مخلصين لله ، مصلحين فيما عملوه ، ويستقيم لهم ذلك حتى يصبروا على ما أوذوا ، وهؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وهم من خير أمة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويؤمنون بالله . وقوم يجتمع فيهم هذا و هذا وهم غالب المؤمنين ، فمن فيه دين وله شهوة تجتمع في قلوبهم إرادة الطاعة و إرادة المعصية ، وربما غلب هذا تارة وهذا تارة . وهذه القسمة الثلاثية كما قيل : الأنفس ثلاث : أمارة ، ومطمئنة ،ولوامة ، فالأولون هم أهل الأنفس الأمارة التي تأمره بالسوء ، والأوسطون هم أهل النفوس المطمئنة التي قيل فيها : { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ {27} ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً {28} فَادْخُلِي فِي عِبَادِي {29} وَادْخُلِي جَنَّتِي {30} } والآخرون هم أهل النفوس اللوامة التي تفعل الذنب ثم تلوم عليه ، وتتلون : تارة كذا ،وتارة كذا ، وتخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً . ولهذا لما كان الناس في زمن أبي بكر وعمر اللذين أمر المسلمون بالاقتداء بهما كما قال صلى الله عليه وسلم : (( اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر )) : أقرب عهداً بالرسالة وأعظم إيماناً وصلاحاً ، وأئمتهم أقوم بالواجب وأثبت في الطمأنينة : لم تقع فتنة ، إذ كانوا في حكم القسم الوسط.
ولما كان في آخر خلافة عثمان و خلافة علي كثر القسم الثالث ، فصار فيهم شهوة وشبهة مع الإيمان والدين ، وصار ذلك في بعض الولاة وبعض الرعايا ، ثم كثر ذلك بعد ، فنشأت الفتنة التي سببها ما تقدم من عدم تمحيص التقوى والطاعة في الطرفين ، واختلاطهما بنوع من الهوى والمعصية في الطرفين ، وكل منهما متأول أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، و أنه مع الحق والعدل ، ومع هذا التأويل نوع من الهوى ، ففيه نوع من الظن وما تهوى الأنفس ، وإن كانت إحدى الطائفتين أولى بالحق من الأخرى . فلهذا يجب على المؤمن أن يستعين بالله ، ويتوكل عليه في أن يقيم قلبه و لا يزيغه ،ويثبته على الهدى والتقوى ، ولا يتبع الهوى ، كما قال تعالى : { فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (الشورى:15) . وهذا أيضاً حال الأمة فيما تفرقت فيه واختلفت في المقالات والعبادات ، وهذه الأمور مما تعظم بها المحنة على المؤمنين ، فإنهم يحتاجون إلى شيئين : إلى دفع الفتنة التي ابتليّ بها نظراؤهم من فتنة الدين والدنيا عن نفوسهم مع قيام المقتضى لها ، فإن معهم نفوساً وشياطين كما مع غيرهم ، فمع وجود ذلك من نظرائهم يقوى المقتضي عندهم ، كما هو الواقع ، فيقوى الداعي الذي في نفس الإنسان وشيطانهم ،وما يحصل من الداعي بفعل الغير والنظير فكم ممن لم يرد خيراً ولا شراً حتى رأى غيره – لاسيما إن كان نظيره – يفعله ففعله ! فإن الناس كأسراب القطا ، مجبولون على تشبه بعضهم ببعض.
ولهذا كان المبتدئ بالخير والشر : له مثل من تبعه من الأجر والوزر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ،من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً ، ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً )). وذلك لاشتراكهم في الحقيقة ، وأن حكم الشيء حكم نظيره، وشبه الشيء تنجذب إليه . فإذا كان هذان داعيين قويين : فكيف إذا انضم إليهما داعيان آخران ؟ وذلك أن كثيراً من أهل المنكر يحبون من وافقهم على ماهم فيه ، ويبغضون من لا يوافقهم ، وهذا ظاهر في الديانات الفاسدة من موالاة كل قوم لموافقيهم ، ومعاداتهم لمخلفيهم.
ولهذا كان المبتدئ بالخير والشر : له مثل من تبعه من الأجر والوزر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ،من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً ، ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً )). وذلك لاشتراكهم في الحقيقة ، وأن حكم الشيء حكم نظيره، وشبه الشيء تنجذب إليه . فإذا كان هذان داعيين قويين : فكيف إذا انضم إليهما داعيان آخران ؟ وذلك أن كثيراً من أهل المنكر يحبون من وافقهم على ماهم فيه ، ويبغضون من لا يوافقهم ، وهذا ظاهر في الديانات الفاسدة من موالاة كل قوم لموافقيهم ، ومعاداتهم لمخلفيهم.