كنت أقوم بالمرور اليومي على المرضى في غرفة العناية المركزة في ذلك المستشفى الكندي الذي كنت أتابع فيه الدراسة الطبية العليا، لفت انتباهي اسم المريض في السرير رقم 3 إنه محمد، نظرت إليه ملياً أتفحص ملامحه أتفرس قسمات وجهه الذي كاد يتوارى تحت أنقاض أنابيب أجهزة الإنعاش إنه شاب في الخامسة والعشرين من العمر مصاب بمرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) أدخل إلى المستشفى قبل يومين بالتهاب حاد في الرئة وحالته خطرة جداً وشبه ميؤوس منها لم يكن هذا أول مريض مسلم في بلاد الغرب أعالجه ولكني أحسست نحوه بشعور خاص لا أعرف سببه.
وبعد انتهاء المرور الصباحي اختلست لحظات واقتربت من هذا الشاب حاولت أن أكلمه برفق إنه يسمعني ولكنه لا يستطيع أن يجيب إلا بكلمات غير مفهومة، اتصلت ببيته، ردت علي أمه يبدو أنهم من أصول عربية لبنانية وأبوه تاجر كبير في المدينة يمتلك محلات حلويات، شرحت للأم حالة ابنها أثناء حديثي معها بدأت أجراس الإنذار تتعالى بشكل مخيف من الأجهزة الموصلة بذلك الفتى مؤشرة على هبوط حاد في الدورة الدموية، ارتبكت في حديثي مع الأم قلت لها لابد وأن تحضري الآن، وقالت : أنا مشغولة في عملي سوف أحضر بعد انتهاء الدوام، قلت لها : ربما يكون الوقت متأخراً عندها وأغلقت السماعة بعد نصف ساعة طلبت مني الممرضة أن أحضر للقاء والدة المريض امرأة في متوسط العمر لا تبدو عليها مظاهر الإسلام بدت مضطربة، شرحت لها الوضع الحرج لابنها انهارت باكية حاولت تهدئتها قلت لها : اسألي الله له الشفاء، نظرت إلي بدهشة : ماذا قلت ؟؟ قلت : تعلقي بالله اسألي له الشفاء !! قالت : أنت مسلم ؟!! قلت : نعم الحمد لله ، قالت : نحن مسلمون كذلك. قلت : ما شاء الله لماذا لا تذهبين عند رأسه وتقرئين عليه شيئاً من القرآن الكريم لعل الله أن يخفف عنه ؟؟ انتفضت بارتباك وقد انخرطت في بكاء مرير قالت : لا أعرف. قلت كيف تصلين ؟؟ قالت نحن لا نصلي ؟؟!!
(هل تذكرت صل قبل أن يصلى عليك)
ولكن لنتابع القصة .. قالت نحن لا نصلي إلا في العيد منذ أن أتينا إلى هذا البلد ولكني أذهب لزيارة أضرحة أجدادي في لبنان كل عامين أدعو لهم دون علم زوجي أنا امرأة متدينة (الله المستعان متدينة من دون صلاة ولا تعرف القرآن) سألتها عن حال ابنها، قالت كان طيب القلب يحب الحياة ولكنه انحرف قليلاً في السنة الماضية مع تلك الفتاة التي استولت عليه وكان حاله على أحسن ما يرام، قلت : هل كان يصلي ؟؟ قالت : لا ولكنه كان ينوي أن يحج في آخر عمره .. (من يضمن أن يعيش إلى الثلاثين أو الاربعين والخمسين والستين ... كم من صغير مات ولم يبلغ العشرين) .. اقتربت من الفتى المسكين وهو يصارع سكرات الموت، أجهزة المنبه تتعالى الأم تبكي بصوت مسموع الممرضات ينظرن بدهشة، جاهداً حاولت أن ألقن الفتى الشهادتين والفتى لا يستجيب عاودت المحاولة مرات عديدة بدأ الفتى يفيق شيئا ما .. قل لا إله الا الله ... الفتى يحاول بكل جوارحه والدموع تفتر من أطراف عينيه وجدته يتغير لونه إلى السواد .. أريد مسكناً للألم .. قل لا إله الا الله .. شفتاه ترتجفان يا إلهى سينطقها الآن (I cant I cant) أريد صديقتي لا أستطيع ... النبض يتناقص .. أريد صديقتي لا أستطيع .. النبض يتناقص والتنفس يتلاشى لم أتمالك نفسي أخذت أبكي بحرقة وأعدت المحاولة : أرجوك قلها .. لا أستطيع .. توقف النبض وأنا ممسك بيد الفتى في ذهول تام والأم مرتمية على صدره تصرخ ووجه الفتى غطاه سواد كالح لم أتمالك نفسي نسيت كل الأعراف الطبية وذهلت من حساسية الموقف انفجرت صارخاً في الأم أنت المسؤولة أنت وأبوه ضيعتم الأمانة ضيعكم الله الأم تبكي في ذهول ..
{أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون}
قال ابن القيم رحمه الله تعالى : فإذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوته وكمال إدراكه قد تمكن منه الشيطان واستعمله فيما يريده من معاصي الله فكيف الظن به عند سقوط قواه واشتغاله قلبه ونفسه بما هو فيه من ألم النزع ؟؟ وجميع الشيطان عليه كل قوته وهمته لينال منه فرصته فأقوى ما يكون عليه شيطانه ذلك الوقت وأضغف ما يكون هو في تلك الحال فمن ترى يسلم من ذنبك فهناك {يثبت الله الذين أمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء}
تحياتى القلب الجسور